لـي حَـيا
ولَبِثْنا على ذلِكَ بُرْهَةً. يُنْشئ لي كلَّ يومٍ نُزهَةً. ويدْرَأُ عن قلبي شُبهَةً. الى أنْ جدَحَتْ لهُ يَدُ الإمْلاقِ. كأس الفِراقِ. وأغْراهُ عدَمُ العُراقِ. بتَطْليقِ العِراقِ. ولفَظَتْهُ مَعاوِزُ الإرْفاقِ. الى مَفاوِزِ الآفاقِ. ونظَمَهُ في سِلْكِ الرّفاقِ. خُفوقُ رايةِ الإخْفاقِ. فشحَذَ للرّحْلَةِ غِرارَ عزْمَتِهِ. وظَعَنَ يقْتادُ القلْبَ بأزِمّتِهِ.
فما راقَني مَنْ لاقَني بعْدَ بُعْدِهِولا شاقَني مَنْ ساقني لوِصالِهِ ولا لاحَ لي مُذْ ندّ نِدٌ لفَضْلِـهِولا ذو خِلالٍ حازَ مثلَ خِلالِهِواسْتَسَرّ عني حيناً. لا أعرِفُ لهُ عَريناً. ولا أجِدُ عنْهُ مُبيناً. فلمّا أُبْتُ منْ غُربَتي. الى منْبِتِ شُعْبَتي. حضَرْتُ دارَ كُتُبِها التي هيَ مُنتَدى المتأدّبينَ. ومُلتَقَى القاطِنينَ منهُمْ والمُتغرّبينَ. فدخَلَ ذو لِحْيَةٍ كثّةٍ. وهيئَةٍ رثّةٍ. فسلّمَ على الجُلاّسِ. وجلَسَ في أُخرَياتِ الناسِ. ثمّ أخذَ يُبْدي ما في وِطابِهِ. ويُعْجِبُ الحاضِرينَ بفصْلِ خِطابِهِ. فقال لمَنْ يَليه: ما الكِتابُ الذي تنظُرُ فيهِ? فقالَ: ديوانُ أبي عُبادةَ. المشْهودِ لهُ بالإجادَةِ. فقال: هلْ عثَرْتَ لهُ فيما لمحْتَهُ. على بَديعٍ استَملَحْتَهُ? قال: نعمْ قولُه:
كأنّما تبْسِمُ عن لُؤلُـؤٍمنضّدٍ أو برَدٍ أو أقاحْ فإنّهُ أبدَعَ في التّشبيهِ. المُودَعِ فيهِ. فقالَ لهُ: يا لَلعجَبِ. ولَضَيْعَةِ الأدبِ! لقدِ استَسْمَنْتَ يا هَذا ذا ورَمٍ. ونَفَخْتَ في غيرِ ضرَمٍ! أينَ أنتَ منَ البيْتِ النّدْرِ. الجامِعِ مُشَبّهاتِ الثّغْرِ? وأنْشَد:
نفْسي الفِداءُ لثَغْرٍ راقَ مبسِمُـهُوزانَهُ شنَبٌ ناهيكَ من شـنَـبِيفترُّ عن لُؤلُؤٍ رطْبٍ وعن بـرَدٍوعن أقاحٍ وعن طلْعٍ وعن حبَبِ فاستَجادَهُ مَنْ حضَر واسْتَحْلاهُ. واستَعادَهُ منْهُ واسْتمْلاهُ. وسُئِلَ: لمنْ هذا البيتُ. وهلْ حيٌ قائِلُهُ أو ميْتٌ? فقال: أيْمُ اللهِ لَلحَقُّ أحَقُّ أنْ يُتّبَعَ. ولَلصّدْقُ حَقيقٌ بأنْ يُستَمَعَ! إنّهُ يا قَوْمُ. لنَجيّكُمْ مُذُ اليوْمَ. قال: فكأنّ الجَماعَةَ ارْتابَتْ بعزْوَتِه. وأبَتْ تصْديقَ دعْوَته. فتوجّسَ ما هجَسَ في أفْكارِهِمْ. وفطِنَ لِما بَطَنَ مِنِ استِنْكارِهِمْ. وحاذَرَ أنْ يفْرُطَ إليْهِ ذمّ. أو يَلْحَقَهُ وصْمٌ. فقرأ: إنّ بعْضَ الظنّ إثْمٌ. ثم قال: يا رُواةَ القَريضِ. وأُساةَ القوْلِ المَريضِ. إنّ خُلاصَةَ الجوهَرِ تظهَرُ بالسّبْكِ. ويدَ الحقّ تصْدَعُ رِداءَ الشّكّ. وقدْ قيلَ فيما غبَرَ منَ الزّمانِ: عندَ الامتِحانِ. يُكرَمُ الرّجُلُ أو يُهانُ. وها أنا قدْ عرّضْتُ خبيئَتي للاخْتِبارِ. وعرَضْتُ حَقيبَتي على الاعْتِبارِ. فابْتَدَر. أحدُ مَنْ حضَرَ. وقال: أعرِفُ بيْتاً لمْ يُنسَجْ على مِنْوالِهِ. ولا سمَحَتْ قَريحةٌ بمِثالِهِ. فإنْ آثَرْتَ اختِلابَ القُلوبِ. فانْظِمْ على هذا الأسْلوبِ. وأنْشَدَ:
فأمطَرَتْ لؤلؤاً من نرْجِسٍ وسقَتْورْداً وعضّتْ على العُنّابِ بالبَرَدِ فلم يكُنْ إلا كلَمْحِ البَصَرِ أو هُوَ أقرَبُ. حتى أنْشَدَ فأغْرَب:
سألتُها حينَ زارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِها القاني وأيداعَ سمْعي أطيَبَ الخبَـرِفزَحزَحَتْ شفَقاً غشّى سَنا قـمَـرٍوساقَطَتْ لُؤلؤاً من خاتَمٍ عطِـرِفحارَ الحاضِرونَ لبَداهَتِه. واعتَرَفوا بنَزاهَتِه. فلمّا آنَسَ استِئْناسَهُمْ بكَلامِهِ. وانصِبابَهُمْ الى شِعْبِ إكْرامِهِ. أطْرَقَ كطَرْفَةِ العَينِ. ثمّ قال: ودونَكُمْ بيتَينِ آخرَينِ. وأنشدَ:
وأقبَلَتْ يومَجدّ البينُ في حُلَـلٍسودٍ تعَضُّ بَنانَ النّادِم الحَصِرِفلاحَ ليْلٌ على صُبْحٍ أقلّهُـمـاغُصْنٌ وضرّسَتِ البِلّورَ بالدَّرَرِ
فحينَئذٍ استَسْنى القوْمُ قيمَتَهُ. واستَغْزَروا ديمَتَهُ. وأجْمَلوا عِشْرَتَهُ. وجمّلوا قِشرَتَهُ. قال المُخْبِرُ بهَذِهِ الحِكايَةِ: فلمّا رأيتُ تلهُّبَ جذْوَتِهِ. وتألُّقَ جلْوَتِهِ. أمعَنْتُ النّظَرَ في توسُّمِهِ. وسرّحْتُ الطّرْفَ في ميسِمِهِ. فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ. وقدْ أقْمَرَ ليلُه الدّجُوجيُّ. فهنّأتُ نفسي بمَورِدِهِ. وابتدَرْتُ اسْتِلام يدِهِ. وقلتُ لهُ: ما الذي أحالَ صفَتَكَ. حتى جهِلْتُ معرِفَتَكَ? وأيّ شيء شيّبَ لحيَتَكَ. حتى أنْكَرْتُ حِليَتَكَ? فأنشأ يقول:
وقْعُ الشّوائِبِ شـيّبْوالدّهرُ بالناسِ قُلَّـبْإنْ دانَ يوماً لشَخْـصٍففي غدٍ يتـغـلّـبْفلا تثِـقْ بـوَمـيضٍمنْ برْقِهِ فهْوَ خُلّـبْواصْبِرْ إذا هوَ أضْرىبكَ الخُطوبَ وألّـبْفما على التِّبْرِ عـارٌفي النّارِ حينَ يُقلَّـبْثمّ نهضَ مُفارِقاً موضِعَهُ. ومُستَصْحِباً القُلوبَ معَهُ.
المقامة الدّينارية
رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نظَمَني وأخْداناً لي نادٍ. لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ. ولا كَبا قدْحُ زِنادٍ. ولا ذكَتْ نارُ عِنادٍ. فبيْنَما نحنُ نتجاذَبُ أطْرافَ الأناشيدِ. ونَتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ. إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ. وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ. فقال: يا أخايِرَ الذّخائِرِ. وبشائِرَ العَشائِرِ. عِموا صَباحاً. وأنْعِموا اصطِباحاً. وانظُروا الى مَنْ كان ذا نَديّ ونَدًى. وجِدَةٍ وجَداً. وعَقارٍ وقُرًى. ومَقارٍ وقِرًى. فما زالَ بهِ قُطوبُ الخُطوبِ. وحُروبِ الكُروبِ. وشَرَرُ شرِّ الحَسودِ. وانْتِيابُ النّوَبِ السّودِ. حتى صفِرَتِ الرّاحَةُ. وقرِعَتِ الساحَةُ. وغارَ المنْبَعُ. ونَبا المَرْبَعُ. وأقْوى المجْمَعُ. وأقَضّ المضْجَعُ. واستَحالَتِ الحالُ. وأعْوَلَ العِيالُ. وخَلَتِ المَرابِطُ. ورَحِمَ الغابِطُ. وأودى النّاطِقُ والصّامِتُ. ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ. وآلَ بِنا الدّهرُ الموقِعُ. والفَقْرُ المُدْقِعُ. الى أنِ احْتَذيْنا الوَجى. واغْتذدَينا الشّجا. واستَبْطَنّا الجَوى. وطَوَيْنا الأحْشاءَ على الطّوى. واكْتَحَلْنا السُهادَ. واستَوطَنّا الوِهادَ. واستوطأن القتاد. وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحين المحتاج واستَبْطأنا اليومَ المُتاحَ. فهل من حُرٍّ آسٍ. أو سمْحٍ مُؤاسٍ? فوَالّذي استَخْرَجَني من قَيلَه. لقَد أمْسَيتُ أخا عَيْلَه. لا أمْلِكُ بيْتَ ليْلَه. قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فأوَيْتُ لمَفاقِرِه. ولوَطْتُ الى استِنْباطِ فِقَرِهِ. فأبْرَزتُ ديناراً. وقُلتُ لهُ اختِباراً: إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً. فهوَ لكَ حتْماً. فانْبَرى يُنشِدُ في الحالِ. من غيرِ انتِحال:
أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْجوّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفرَتُـهْمأثورَةٌ سُمعَتُهُ وشُـهـرَتُـهْقد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسرّتُـهْوقارَنَتْ نُجحَ المَساعي خطرَتُهوحُبِّبَتْ الى الأنـامِ غُـرّتُـهْكأنّما منَ القُلـوبِ نُـقْـرَتُـهْبهِ يصولُ مَنْ حوَتْهُ صُرّتُـهْوإنْ تَفانَتْ أو توانَتْ عِتْـرَتُـهْيا حبّذا نُضارُهُ ونَـضْـرَتُـهْوحبّذا مَغْناتُـهُ ونـصْـرَتُـهْكمْ آمِرٍ بهِ استَتَبّتْ إمـرَتُـهْومُتْرَفٍ لوْلاهُ دمَتْ حسْرَتُـهْوجيْشِ همٍّ هزمَتْـهُ كـرّتُـهْوبدرِ تِمٍّ أنـزَلَـتْـهُ بـدْرَتُـهْومُستَشيطٍ تتلظّى جمْـرَتُـهْأسَرّ نجْواهُ فلانَـتْ شِـرّتُـهْوكمْ أسيرٍ أسْلمَتْـهُ أُسـرَتُـهْأنقَذَهُ حتى صفَتْ مـسـرّتُـهْوحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ فِطْرَتُـهْلوْلا التُقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ
ثم بسَط يدَهُ. بعدَما أنْشدَهُ. وقال: أنْجَزَ حُرٌ ما وعَدَ. وسَحّ خالٌ إذ رَعَدَ. فنبَذْتُ الدّينارَ إليْهِ. وقلت